-صعيد مصر ، ٢١/١/ ٢٠١٤-
إنها تقف زهائها -ابنتها-، أمام منزلهم و لجج الدموع تربت على صدغ الابنة، أو ربما تواسي ودق عانقت السماء وقت الفجر به، بينما طفلة بتلات زهرتها ما لبثت أن رحبت بربيعها الخامس عشر، و ها هي تجافيها الحياة برحيلها من وطنها الصغير-بيتها-، أشبه هو بالهرب بعيدا عن كونه وداع مثخن بكدمات الوجوم و انفلات أعصاب من كشف ما هي مقدمة على فعله …
«سارعي إلى محطة القطار، استقلي قطار الخامسة فجرا، لا تبقِ هنا ثانية واحدة و الا قتلك ابوكِ، لو حدث لي شيء لا تسمحي لنفسك أن تبيعيها خوفا من الموت، موتي و لا تتزوجي ذلك الخرف أو حتى غيره، اهربي يا مريم »
كانت أصداء آخر كلمات الأم لمريم رنانة، ليس فقط في اذن الابنة التي ذُبحت مهجتها حين أبصرت أباها الباغي تسارع قدماه الريح نحو أمها، و أوصاله مجرمة تعينه على حمل بندقيته التي أستأصل بها روح الأم الطاهرة …الروح التي خانته و أعانت ابنته على العصيان .
و قبل أن ترى أمها تعانق الارض بدمائها هربت …كما امرت أن تفعل، أن تهرب منهم جميعا، ألا تكون مثلها و تضحي في موضع غير موضع التضخية، أن تنعتق من جسدها إن وجب عليها حتى لا تتزوج و هي طفلة ما لبثت أن غادرت مهدها …و أن تغير مسار سيناريو أملت أمها أن ينحرف بعيدا عن طريق الموت منذ الصغر، موت المهج داخل أجساد تعافر لتبقى رغم الأرواح الأبية ضد البقاء.
*******
تلاشت ساعات رحلتها الأربع في بكاء أزلي، هي نفسها لا علم لها على ماذا ترقرقت العبرات على وجنتيها هكذا، ألأنها هاربة و هي طفلة بلا سنيد؟ ، أم أنها تتجنب التفكير في روح أمها التي دالت تحت قدميها بينما تدير ظهرها نحو الرحيل ؟، ربما تواسي مهجتها المرعوبة من مغبة و وقع ما أقدمت عليه، لكنها واثقة من العهد الذي قطعته و رسخ في فؤادها .
حتى حين قابلها ابن خالتها الأكبر في محطة رمسيس بالقاهرة ، يقودها إلى عش خالتها الصغير، مأواها الجديد من مخالب مدعي القرابة- كانت واجمة، معلقة مقلتيها بالعدم، و حين شرع يسألها عن خالته نبيلة-أمها- و عن أحوالها رضخت قواها للسقوط بين يديه فاقدة لما تركته لها الحياة من وعي.
******
حركت اهدابها في أنتشاء، احساس بحركة حولها لم ينقطع منذ خمس دقائق، لكنها راضخة للضعف تحاول البقاء في عيائها و ألا تفيق، سبات سرمدي هو ما تتمناه.
صدحت خالتها بصوت جهوري جوارها :
« استيقظت…استيقظت»
رنت لها في وجوم و ورع، و لم يمر الكثير حتى طفق جمع عائلة خالتها يتدفق الى الغرفة و فضول يتغلغل في ثناياهم عن أحوالها الغير مطمئنة .
عبراتها تتشبث بأهدابها و رجاء معلق في مقلتيها لخالتها أن تبقى معها وحدها .
تلاشى الجمع و بقيا وحدهما، لم تنكر فاطمة قلقها و وجيب قلبها الذي كاد يقتلعه من موضعه، ابنة أختها في حال يرثى لها و أختها الصغيرة لا أخبار عنها منذ الأمس لتشفي غليلها … ألا يجب أن يموج قلبها كمراجل تغلي؟!
أخرجت مريم دفتر قديم اختبأ طوال رحلتها في ثنايا حقيبتها، مدته بأوصال مهزوزة نحو فاطمة و عبرة حارة انزلقت على وجنة خالتها .
عانقت فاطمة دفتر أختها الذي اوقعها في براثن ذكريات أليمة، فتحته و سيلٌ جارف من قتاد يجرها نحوها تلك الذكرى حين كشفت أمر دفتر نبيلة منذ سنوات و أبقت اكتشافها سرا حتى يومنا هذا.
*********
-١\٥\١٩٩٩–
«عزيزي لا أحد،
أسمي نبيلة، و اليوم انهيتُ آخر يوم لي في المدرسة الإعدادية، و آخر يوم دراسي في حياتي، هناك حديث يدور حول زواجي القريب، مثيرٌ للسخريةِ حقا أني لا أعرف حتى أسم ذلك الزوج المستقبلي، أراك قريبا »
********
-٥/٥/١٩٩٩-
«عزيزي لا أحد،
أصبحتُ خالة، و أختي فاطمة التي تكبرني بعام غدت أم … لا يغمرني الفرح، و لم تنبلج سريرتي حبورا، أتمنى ألا أكون كفاطمة، أمٌ صغيرة .»
*******
-١٠/٥/١٩٩٩- ;
«اليوم أخبرت امي بما اضمرت داخلي من تمرد، اريد أن أكمل تعليمي، لا أرغب في الزواج .»
********
-١٢/٥/١٩٩٩-
«عزيزي لا أحد،
ضربني أبي اليوم، أخبرته أمي برغبتي، علمتُ أن ما فعلت هو قلة تربية، و عصيان و ربما عقوق والدين، عزيزي لا أحد، انا متعبةٌ حد الموت. »
********
-١٥/٥/١٩٩٩-
«عزيزي لا أحد،
أتدري لم أكتب لشخص خيالي كمثلك ؟
لإن البوح محرم علينا، حتى و إن كان لأنفسنا .»
********
-٢٠/٥/١٩٩٩-
«عزيزي لا أحد،
منذ خمسة أيام كانت خطبتي، كنت اود كسر اصبعي حتى لا ارتدي خاتم الخطبة، أبي كان سيكشف الأمر حينها لذا تراجعت، غدا ليلة الحنة و لا أظنني سألقاك قريبا .»
*********
-٢٢/٥/١٩٩٩-
«عزيزي لا أحد،
اليوم زفافي، رأيت الشخص الذي سيتزوجني أخيرا، ليت عيني لم تبصره يوما، إنه عجوز في الأربعين، مخيف، جفلت جوارحي حين رأيته، اسمه متولي، لن أكتب لك ثانية بعد اليوم، سأدثر هذا الدفتر في مكان مبهم، لربما احتاج لإفراغ ما بجعبتي لك يوما، أو لربما تُفتح قضيتي المغلقة منذ الأزل، وداعا يا انيسي.»
********
-٢٠/١/٢٠١٤-
«عزيزي لا أحد،
رزقني الله بابنة، اسميتها مريم آملةً أن تتجرع من الطهارة القليل، صارت اليوم في الخامسة عشر، زوجي يود أن يزوجها، و انا لن اسمح له مهما حدث، سأجعلها تهرب اليوم، قد اموت يا لا أحد، لا يهم حقا المهم ان لا ادعها تغلق قضية طفولتها بيدها مجبرة، سأفتحها لها و ادعها تسلك الدرب وحدها، ارجو ألا تفتقد صفحاتك حبر قلمي، وداعا بصدقٍ و إلى الأبد.»
********
أطبقت فاطمة دفتر أختها المهترئ و عبراتها اغدقته في حين غرة، تعانق جفناها بتعب مضن، و كوابيس تتعارك في رأسها حول مغبة أختها بعد ما فعلت مع ابنتها، و في هنيهة قررت قطع الشك باليقين، التفتت نحو مريم المستلقية بعيائها على السرير و طفقت تسألها بذعر المستغيث:
«ماذا حل بنبيلة يا مريم ؟»
بغشاء من دموع حجب رؤيتها و دون إدراك أجابت الفتاة :
«قتلها أبي أمامي»
هنا صار المبهم واضح كشمس احرقت الجبين، كل الاتصالات على بيت اختها بلا رد و كل الردود التي أكدت غيابها غير المبرر من منزلها، أصبح جليا كم أن القضايا المغلقة تفتح نفسها بمهج الاطهار دوما.
*******
تلاحقت انفاسه و أنامله تلامس مقبض الباب، يفتح متولي بوابة منزله عقب طرقات متعاركة تنم عن هوية الطارق، يواجه الضابط بأسارير مكفهرة و إدراك تام منه لما سيطلقه الضابط من رصاصات كلامية نحوه :
«سيد متولي أنت متهم بقتل زوجتك السيدة نبيلة السيد و تهديد ابنتك بالقتل مقابل قبولها الزواج، تفضل معنا دون مقاومة»
اتم كلمته و معها نقش على حجر فتح ابدي لقضية مريم، لم تسمح امها أن تغلق، و ها هي تؤكد أن الروح الباقية منها تعيش شذرات في مهجة مريم، تحيا داخل ابنتها ذات القضية المفتوحة بجل ما أوتيت من ارادة.
قضاياهن دوما مغلقة، وجب علينا فتحها ..
-تمت بحمد الله-
ما خطه قلمي ، ارائكم💜
و هذا غلاف القصة من تصميمي